فصل: من فوائد صاحب المنار:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الوجه العاشر: قولهم فكلمة الله التي بها خلقت اللطائف تظهر في غير كثيف كلا كلام باطل.
فإن ظهور ما يظهر من الأمور الإلهية إذا أمكن ظهوره فظهوره في اللطيف أولى من ظهوره في الكثيف فإن الملائكة تنزل بالوحي على الأنبياء عليهم السلام وتتلقى كلام الله من الله وتنزل به على الأنبياء عليهم السلام فيكون وصول كلام الله إلى ملائكة قبل وصوله إلى البشر وهم الوسائط كما قال تعالى: {أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء}.
والله تعالى أيد رسله من البشر حتى أطاقوا التلقي عن الملائكة وكانت الملائكة تأتيهم أحيانا في غير الصورة البشرية وأحيانا في الصورة البشرية فكان ظهور الأمور الإلهية باللطائف ووصولها إليهم أولى منه بالكثائف ولو جاز أن يتحد الرب سبحانه بحي من الأحياء ويحل فيه لكان حلوله في ملك من الملائكة واتحاده به أولى من حلوله واتحاده بواحد من البشر.
الوجه الحادي عشر: أن الناسوت المسيحي عندهم الذي اتحد به هو البدن والروح معا فإن المسيح كان له بدن وروح كما لسائر البشر واتحد به عندهم اللاهوت فهو عندهم اسم يقع على بدن وروح آدميين وعلى اللاهوت وحينئذ فاللاهوت على رأيهم إنما اتحد في لطيف وهو الروح وكثيف وهو البدن لم يظهر في كثيف فقط ولولا اللطيف الذي كان مع الكثيف وهو الروح لم يكن للكثيف فضيلة ولا شرف.
الوجه الثاني عشر: أنهم يشبهون اتحاد اللاهوت بالناسوت باتحاد الروح بالبدن كما شبهوا هنا ظهوره فيه بظهور الروح في البدن وحينئذ فمن المعلوم أن ما يصيب البدن من الآلام تتألم به الروح وما تتألم به الروح يتألم به البدن فيلزمهم أن يكون الناسوت لما صلب وتألم وتوجع الوجع الشديد كان اللاهوت أيضا متألما متوجعا وقد خاطبت بهذا بعض النصارى فقال لي الروح بسيطة أي لا يلحقها ألم فقلت له فما تقول في أرواح الكفار بعد الموت أمنعمة أو معذبة فقال هي في العذاب فقلت فعلم أن الروح المفارقة تنعم وتعذب فإذا شبهتم اللاهوت في الناسوت بالروح في البدن لزم أن تتألم إذا تألم الناسوت كما تتألم الروح إذا تألم البدن فاعترف هو وغيره بلزوم ذلك.
الوجه الثالث عشر: أن قولهم وإذا كانت اللطائف لاتظهر إلا في الكثائف فكلمة الله لا تظهر إلا في كثيف كلا.
تركيب فاسد لا دلالة فيه وإنما يدل إذا بينوا أن كل لطيف يظهر في كثيف ولا يظهر في غيره حتى يقال فلهذا ظهر الله في كثيف ولم يظهر في لطيف وإلا فإذا قيل أنه لا يحل لا في لطيف ولا كثيف أو قيل أنه يحل فيهما بطل قولهم بوجوب حلوله في المسيح الكثيف دون اللطيف وهم لم يؤلفوا الحجة تأليفا منتجا ولا دلوا على مقدماتها بدليل فلا أتوا بصورة الدليل ولا مادته بل مغاليط لا تروج إلا على جاهل يقلدهم.
ولا يلزم من حلول الروح في البدن أن يحل كل شيء في البدن بل هذه دعوى مجردة فأرواح بني آدم تظهر في أبدانهم ولا تظهر في أبدان البهائم بل ولا في الجن والملائكة تتصور في صورة الآدميين وكذلك الجن والإنسأن لا يظهر في غير صورة الإنسان فأي دليل من كلامهم على أن الرب يحل في الإنسان الكثيف ولا يحل في اللطيف.
والقوم شرعوا يحتجون على تجسيم كلمة الله الخالقة فقالوا وأما تجسيم كلمة الله الخالقة بإنسان مخلوق وولادتهما معا أي الكلمة مع الناسوت فإن الله لم يكلم أحدا من الأنبياء إلا وحيا أو من وراء حجاب وليس فيما ذكروه قط دلالة لا قطعية ولا ظنية على تجسيم كلمة الله الخالقة وولادتها مع الناسوت.
الوجه الرابع عشر: أنهم قالوا وأما تجسيم كلمة الله الخالقة ثم قالوا فكلمة الله التي بها خلقت اللطائف فتارة يجعلونها خالقة وتارة يجعلونها مخلوقا بها ومعلوم أن الخالق ليس هو المخلوق به والمخلوق به ليس هو الخالق فإن كانت الكلمة خالقة فهي خلقت الأشياء ولم تخلق الأشياء بها وإن كانت الأشياء خلقت بها فلم تخلق الأشياء بل خلقت الأشياء بها ولو قالوا إن الأشياء خلق بها بمعنى أن الله إذا أراد أمرا فإنما يقول له كن فيكون لكان هذا حقا لكنهم يجعلونها خالقة مع قولهم بما يناقض ذلك.
الوجه الخامس عشر: أن يقال لهم إذا كان الله لم يخاطب بشرا إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء فتكليمه للبشر بالوحي ومن وراء حجاب كما كلم موسى وبإرسال ملك كما أرسل الملائكة إما أن يكون كافيا في حصول مراد الرب من الرسالة إلى عباده أو ليس كافيا بل لابد من حلوله نفسه في بشر فإن كان ذلك كافيا أمكن أن يكون المسيح مثل غيره فيوحي الله إليه أو يرسل إليه ملكا فيوحي بإذن الله ما يشاء أو يكلمه من وراء حجاب كما كلم موسى وحينئذ فلا حاجة به إلى اتحاده ببشر مخلوق وإن كان التكلم ليس كافيا وجب أن يتحد بسائر الأنبياء كما اتحد بالمسيح فيتحد بنوح وإبراهيم وموسى وداود وغيرهم يبين هذا.
الوجه السادس عشر: وهو أنه من المعلوم أن الأنبياء الذين كانوا قبل المسيح أفضل من عوام النصارى الذين كانوا بعد المسيح وأفضل من اليهود الذين كذبوا المسيح فإذا كان الرب قد يفضل باتحاده في المسيح حتى كلم عباده بنفسه فيتحد بالمسيح محتجبا ببدنه الكثيف وكلم بنفسه اليهود المكذبين للمسيح وعوام النصارى وسائر من كلمه المسيح فكان أن يكلم من هم أفضل من هؤلاء من الأنبياء والصالحين بنفسه أولى وأحرى مثل أن يتحد بإبراهيم الخليل فيكلم إسحاق ويعقوب ولوطا محتجبا ببدن الخليل أو يتحد بيعقوب فيكلم أولاده أو غيرهم محتجبا ببدن يعقوب أو يتحد بموسى بن عمران فيكلم هارون ويوشع بن نون وغيرهما محتجبا ببدن موسى فإذا كان هو سبحانه لم يفعل ذلك إما لامتناع ذلك وإما لأن عزته وحكمته اعلى من ذلك مع عدم الحاجة إلى ذلك علم أنه لا يفعل ذلك في المسيح بطريق الأولى والأحرى.
الوجه السابع عشر: أنه إذا أمكنه أن يتحد ببشر فاتحاده بملك من الملائكة أولى وأحرى وحينئذ فقد كان اتحاده بجبريل الذي أرسله إلى الأنبياء أولى من اتحاده ببشر يخاطب اليهود وعوام النصارى. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار:

قال رحمه الله:
{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ}.
قَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَيُعَلِّمُهُ بِالْيَاءِ وَالْبَاقُونَ {وَنُعَلِّمُهُ} بِالنُّونِ. وَالْكِتَابُ هُنَا: الْكِتَابَةُ بِالْخَطِّ، وَالْحِكْمَةُ: الْعِلْمُ الصَّحِيحُ الَّذِي يَبْعَثُ الْإِرَادَةَ إِلَى الْعَمَلِ النَّافِعِ، وَيَقِفُ بِالْعَامِلِ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْبَصِيرَةِ وَفِقْهِ الْأَحْكَامِ وَأَسْرَارِ الْمَسَائِلِ.
{وَالتَّوْرَاةَ}: كِتَابُ مُوسَى فَقَدْ كَانَ الْمَسِيحُ عَالِمًا بِهِ يُبَيِّنُ أَسْرَارَهُ لِقَوْمِهِ، وَيُقِيمُ عَلَيْهِمُ الْحُجَجَ بِنُصُوصِهِ، {وَالْإِنْجِيلَ}: هُوَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ نَفْسِهِ- وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ أَوَّلِ السُّورَةِ الْكَلَامُ فِيهِمَا- وَالْكَلَامُ مَعْطُوفٌ عَلَى قوله: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ} وَآيَةُ قَالَتْ رَبِّ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُمَا وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إسرائيل أَيْ وَيُرْسِلُهُ أَوْ يَجْعَلُهُ- بِالْيَاءِ أَوِ النُّونِ- رَسُولًا إِلَى بَنِي إسرائيل، فَحَذَفَ لَفْظَ يُرْسِلُهُ أَوْ يَجْعَلُهُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَرَأَيْتُ رُوحَكَ فِي الْوَغَى ** مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الرَّسُولَ هُنَا بِمَعْنَى الرِّسَالَةِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَيُعَلِّمُهُ الرِّسَالَةَ إِلَى بَنِي إسرائيل، وَاسْتِعْمَالُ لَفْظِ الرَّسُولِ بِمَعْنَى الرِّسَالَةِ شَائِعٌ. قَالَ كُثَيِّرٌ:
لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا بُحْتُ عِنْدَهُمْ ** بِسِرٍّ وَلَا أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ

وَفِي رِوَايَةٍ بِرَسِيلِ قَالَ: وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ يَجْعَلُ الرَّسُولَ بِمَعْنَى النَّاطِقِ؛ أَيْ نَاطِقًا إِلَى بَنِي إسرائيل {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} أَقُولُ: وَالْمَعْنَى عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ: أنه يُرْسِلُهُ مُحْتَجًّا عَلَى صِدْقِ رِسَالَتِهِ بِأَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، وَفَسَّرَ الْآيَةَ بِقوله: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ} قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخَلْقُ: التَّقْدِيرُ وَالتَّرْتِيبُ لَا الْإِنْشَاءُ وَالِاخْتِرَاعُ، وَيَقْرُبُ أن يكون هَذَا إِجْمَاعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَفَسَّرَهُ الْجَلَالُ هُنَا بِالتَّصْوِيرِ لِأَنَّهُ مِنَ التَّقْدِيرِ.
أَقُولُ: وَذَكَرَ الْجَلَالُ كَغَيْرِهِ أنه كَانَ يَتَّخِذُ مِنَ الطِّينِ صُورَةَ خُفَّاشٍ فَيَنْفُخُ فِيهَا فَتَحِلُّهَا الْحَيَاةُ وَتَتَحَرَّكُ فِي يَدِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ تَطِيرُ قَلِيلًا ثُمَّ تَسْقُطُ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذِهِ التَّفْصِيلَاتِ، بَلْ نَقِفُ عِنْدَ لَفْظِ الْآيَةِ، وَغَايَةُ مَا يُفْهَمُ مِنْهَا أَنَّ اللهَ تعالى جَعَلَ فِيهِ هَذَا السِّرَّ، وَلَكِنْ لَمْ يَقُلْ أنه خَلَقَ بِالْفِعْلِ، وَلَمْ يَرِدْ عَنِ الْمَعْصُومِ أَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَقَعَ وَقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللهِ تعالى أَنْ تُجْرَى الْآيَاتُ عَلَى أَيْدِي الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَ طَلَبِ قَوْمِهِمْ لَهَا وَجَعْلِ الإيمان مَوْقُوفًا عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانُوا سَأَلُوهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ جَاءَ بِهِ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي قوله: {وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} فَإِنَّ قُصَارَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْعِبَارَةُ أنه خُصَّ بِذَلِكَ وَأُمِرَ بِأَنْ يَحْتَجَّ بِهِ، وَالْحِكْمَةُ فِي إِخْبَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى مُنْكِرِي نُبُوَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا وُقُوعُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ بِالْفِعْلِ فَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى نَقْلٍ يُحْتَجُّ بِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ.
هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ يَرْوِي عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ عِيسَى- صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ- جَلَسَ يَوْمًا مَعَ غِلْمَانٍ مِنَ الْكُتَّابِ فَأَخَذَ طِينًا ثُمَّ قَالَ: أَجْعَلُ لَكُمْ مِنْ هَذَا الطِّينِ طَائِرًا، قَالُوا: وَتَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ بِإِذْنِ رَبِّي، ثُمَّ هَيَّأَهُ حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ فِي هَيْئَةِ الطَّائِرِ فَنَفَخَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: كُنْ طَائِرًا بِإِذْنِ اللهِ، فَخَرَجَ يَطِيرُ بَيْنَ كَفَّيْهِ فَكَأَنَّهُ اتَّخَذَ آيَةَ اللهِ عَلَى رِسَالَتِهِ أُلْعُوبَةً لِلصِّبْيَانِ، وَالْحَاصِلُ أنه لَيْسَ عِنْدَنَا نَقْلٌ صَحِيحٌ بِوُقُوعِ خَلْقِ الطَّيْرِ بَلْ وَلَا عِنْدَ النَّصَارَى الَّذِينَ يَتَنَاقَلُونَ وُقُوعَ سَائِرِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ إِلَّا مَا فِي إِنْجِيلِ الصِّبَا أَوِ الطُّفُولَةِ مِنْ نَحْوِ مَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَهُوَ مِنَ الْأَنَاجِيلِ غَيْرِ الْقَانُونِيَّةِ عِنْدَهُمْ وَلَعَلَّ آيَةَ سُورَةِ الْمَائِدَةِ أَدْنَى إِلَى الدَّلَالَةِ عَلَى الْوُقُوعِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ: {إِذْ قَالَ اللهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إسرائيل عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [5: 110] فَإِنَّ جَعْلَ ذَلِكَ كُلَّهُ مُتَعَلِّقَ النِّعْمَةِ يُؤْذِنُ بِوُقُوعِهِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ جَعْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ مِمَّا يَجْرِي عَلَى يَدَيْهِ عِنْدَ طَلَبِهِ مِنْهُ وَالْحَاجَةِ إِلَى تَحَدِّيهِ بِهِ مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ وَأَعْظَمِهَا، وَلَكِنَّ هَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ.
وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ رُوحَانِيَّةَ عِيسَى كَانَتْ غَالِبَةً عَلَى جُثْمَانِيَّتِهِ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الرُّوحَانِيِّينَ؛ لِأَنَّ أُمَّهُ حَمَلَتْ بِهِ مِنَ الرُّوحِ الَّذِي تَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا، فَكَانَ تَجَرُّدُهُ مِنَ الْمَادَّةِ الْكَثِيفَةِ لِلتَّصَرُّفِ بِسُلْطَانِ الرُّوحِ مِنْ قَبِيلِ الْمَلَكَةِ الرَّاسِخَةِ فِيهِ، وَبِذَلِكَ كَانَ إِذَا نَفَخَ مِنْ رُوحِهِ فِي صُورَةٍ رَطْبَةٍ مِنَ الطِّينِ تُحِلُّهَا الْحَيَاةُ حَتَّى تَهْتَزَّ وَتَتَحَرَّكَ، وَإِذَا تَوَجَّهَ بِرُوحَانِيَّتِهِ إِلَى رُوحٍ فَارَقَتْ جَسَدَهَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْتَحْضِرَهَا وَيُعِيدَ اتِّصَالَهَا بِبَدَنِهَا زَمَنًا مَا، وَلَكِنَّ رُوحَانِيَّتَهُ الْبَشَرِيَّةَ لَا تَصِلُ إِلَى دَرَجَةِ إِحْيَاءِ مَنْ مَاتَ فَصَارَ رَمِيمًا. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا يَنْقُلُهُ النَّصَارَى مِنْ إِحْيَاءِ الْمَسِيحِ لِلْمَوْتَى؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا أنه أَحْيَا بِنْتًا قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ، وَأَحْيَا الْيَعَازِرَ قَبْلَ أَنْ يَبْلَى، وَلَمْ يُنْقَلْ أنه أَحْيَا مَيِّتًا كَانَ رَمِيمًا، وَأَمَّا إِبْرَاءُ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ بِالْقُوَّةِ الرُّوحَانِيَّةِ فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى مَا يَعْهَدُ النَّاسُ لاسيما مَعَ اعْتِقَادِ الْمَرِيضِ، وَيَقُولُ مُجَاهِدٌ: إِنَّ الْأَكْمَهَ مَنْ لَا يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ وَيُبْصِرُ بِالنَّهَارِ، وَالْمَشْهُورُ أنه مَنْ وُلِدَ أَعْمَى، وَأَمَّا الأخبار بِبَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ فَقَدْ أُوتِيَهُ كَثِيرُونَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَمِمَّنْ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أَيْ إِنَّ فِيمَا ذُكِرَ لَحُجَّةٌ لَكُمْ عَلَى صِدْقِ رِسَالَتِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بِاللهِ مُصَدِّقِينَ بِقُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ، وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ: أَنَّ قوله: {فَأَنْفُخُ فِيهِ} يَعُودُ إِلَى الطَّيْرِ أَوْ إِلَى مَا ذَكَرَ.
{وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} أَيْ أنه لَمْ يَأْتِ نَاسِخًا لِلتَّوْرَاةِ بَلْ مُصَدِّقًا لَهَا عَامِلًا بِهَا، وَلَكِنَّهُ نَسَخَ بَعْضَ أحكامها كَمَا قَالَ: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} فَقَدْ كَانَ حُرِّمَ عَلَى بَنِي إسرائيل بَعْضُ الطَّيِّبَاتِ بِظُلْمِهِمْ وَكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ فَأَحَلَّهَا عِيسَى {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَعَادَ ذِكْرَ الْآيَةَ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} أَمَرَهُمْ بِتَقْوَى اللهِ وَطَاعَتِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ عَنْهُ، وَخَتَمَ ذَلِكَ بِالتَّوْحِيدِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ: {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } أَيْ أَقْرَبُ مُوَصِّلٍ إِلَى اللهِ. اهـ.

.من فوائد الشعراوي:

قال رحمه الله:
{إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}.
إذن اجتمع الرسول والمرسل إليهم في أنهم جميعا مربوبون إلى إله واحد، هو الذي يتولَّى تربيتهم والتربية تقتضي إيجادا من عدم، وتقتضي إمدادا من عدم، وتقتضي رعاية قيومية، وعيسى ابن مريم يقر بعبوديته لله وكأنه يقول: وأنا لم أصنع ذلك لأكون سيدا عليكم، ولكن أنا وأنتم مشتركون في العبودية لله.
{إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم}.
ومعنى {هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم} أي أنه صراط غير ملتويا لأن الطريق إذ إلتوى؛ انحرف عن الهدف، وحتى تعرف أن الكل يسير على طريق مستقيم واحد، فلتعلم أنك إذا نظرت على سبيل المثال إلى الدائرة، فستجد أن لها محيطا، ولها مركزا، ومركز الدائرة هو الذي نضع فيه سن الفرجار حتى نرسم الدائرة، وبعد ذلك تصل من المركز إلى المحيط بأنصاف أقطار، وكلما بعدنا عن المركز زاد الفرق، وكلما تقرب من المركز تتلاشى الفروق.
فإذا ما كان الخلق جميعا يلتقون عند المركز الواحد فهذا يعني الاتفاق، لكن الاختلاف يحدث بين البشر كلما بعدوا عن المركز ولذلك لا تجد للناس أهواء ولا نجد الناس شيعا إلا إذا ابتعدوا عن المركز الجامع لهم والمركز الجامع لهم هو العبودية للإله الواحد، وما دامت عبوديته لإله واحد ففي هذا جمع للناس بلا هوى أو تفرق.
إنه حتى في الأمر الحسي وهو الدائرة المرسومة، نجد أن الأقطار المأخوذة من المحيط وتمر بمركز الدائرة، سنجد أنه في مسافة ما قبل المركز تتداخل الأقطار إلى أن تصير عند نقطة المركز شيئا واحدا لا انفصال بينها أبدا. وهكذا الناس إذا التقوا جميعا عند مركز عبوديتهم للإله الواحد، فإذا ما اختلفوا، بعدوا عن العبودية للإله الواحد بمقدار ذلك الاختلاف.
ولذلك دعا المسيح عيسى ابن مريم الناس لعبادة الله {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم} ذلك هو منطق عيسى. كان منطقه الأول حينما كان في المهد {قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم: 30].
إن قضية عبوديته لله قد حُسمت من البداية، وهي قضية القمة، أنه عبد الله والقضية الثانية هي قضية الرسالة ونقل مراد الله وتكليفه إلى خلق الله حتى يبنوا حركة حياتهم على مقتضى ما أنزل الله عليهم، ومن الطبيعي أن أي رسول عندما يأتي بمنهج من عند الله، فالهدف أن يحمل الناس جميعا على سلوك هذا المنهج، ويحدد حركة حياتهم بافعل كذا ولا تفعل كذا وعندما يسمع الواحد من الناس الأمر بافعل فقد يجد في التكليف مشقة، لماذا؟ لأنها تلزمه بعمل قد يثقل عليه، ولا تفعل كذا فيها مشقة؛ لأنها تبعده عن عمل كان يحبه.
والمرء في الأحداث بين اثنين: عمل يشق عليه فيحب أن يجتنبه، وعمل يستهويه فيحب أن يقترب منه، والمنهج جاء من السماء ليقول للإنسان افعل ولا تفعل إذن فهناك مشقة في أن يحمل الإنسان نفسه على أن يقوم بعمل ما من أعمال التكليف، ومشقة أخرى في أن يبتعد عن عمل نهى عنه التكليف.